ترجمة نص للشاعر التركي / ناظم حكمت

ترجمة الفنان /فايز السرساوي :

على صفحة احد الاصدقاء استوقفتني تفاصيل خبر ثقافي مفاده انه خلال العام 2014 نظمت مؤسسة مركز الفنون Southbank Centre في العاصمة البريطانية لندن نشاطا لاختيار اجمل خمسين نصا شعريا عن الحب لخمسين شاعرا عالميا خلال الخمسين عام الاخيرة ، حيث وقع اختيار اللجنة على قصيدة الشاعر التركي الكبير ناظم حكمت Severmişim Meğer - Things I Didn’t Know I Loved -

لتكون في مقدمة اجمل قصائد الحب المختارة .انه وبغض النظر عن الجهة المنظمة واختيار اللجنة ورأي كل منا حول هذا النوع من الاختيارات ، الا ان القصيدة المذكورة تثير الفضول على كل حال ، ليس لانها لشاعر بقامة ناظم فقط وانما الى جانب ذلك لما تضمنته من مشاعر واحاسيس تجربة شعورية عميقة متداخلة في عرى الزمان والمكان .. لا اعرف اذا ما حظيت هذه القصيدة بترجمة منصفة للغة العربية ، اذ تعتبر من آخر انتاجات الشاعر عام 62 قبيل وفاته بسنة واحدة . لقد استحوذت فكرة العمل لنقلها للعربية على حيز من شغفي بهذا الشاعر المميز ودفعتني لمغامرة الترجمة لهذا النص الجميل ( أشياء اخالني أحببتها ) .

ناظم حكمت:

26 مارس من العام 62

في قطار براغ - برلين

اجلس بجوار النافذة

يهبط المساء

اخالني احب هبوط المساء

كهبوط طائر متعب

الى سهل رطب معبق بالدخان

تشبيه هبوط المساء بهبوط طائر متعب

لم يرق لي ابدا .

اخالني احب الارض

هل باستطاعة مرابي الإدعاء لمرة واحدة

انه يحب الارض

انا لم اكن مرابيا يوما

اخال ان هذا هو عشقي الرومانسي الوحيد .

اخالني احب النـُهر

تنساب على رسلها متعرجة بلا حراك

عند منحدرات التلال

حتى قمم القلاع فوق تلال اوروبا

تتمدد طويلا على مدى البصر

فانا اعرف ان لا عبور لنفس ماء النهر مرة اخرى

اعرف ان النهر سيأتي بشعاع جديد

وانك هيهات ان تبلغ مداه

واعرف ايضا ان اعمارنا

اطول قليلا من تلك التي للبغال

واقصر قليلا اذا ما شاءت الاقدار

من حياة الغراب

اعرف مشاعر الحزن هذه

وقد عايشها من هم قبلي

وستبقى كذلك من بعدي

لقد رويت جميعها الف مرة قبلي

وستروى الف مرة اخرى بعدي .

اخالني احب السماء

اكانت غائمة ام صافية

قبة السماء التي تأملها اندريا

في ساحة معركة بورودينو

وهو مستلقيا على ظهره .

في السجن ترجمت للتركية مجلدا

الحرب والسلام

الاصوات تتناهى الى سمعي

لا من قبة السماء بل من قلب الميدان

الحراس يضربون احدهم مجددا .

اخالني احب الاشجار

النساء السافرات في ضواحي موسكو

في شتاء "برادالكينو"

يقابلنني بمودة ولطف

الروس يصفون اشجار الحور باشجار الزان

كما الاتراك ايضا

اشجار الزان من ازمير

تتساقط اوراقها متراقصة

هكذا يقال عادة

فلتشتعل الساحات

لزريف الطول .

في غابات "إلقاز" عام 920

علقت منديلا من الكتان

مطرز الحواف

على غصن شجرة الصنوبر الشامخة .

اخالني احب الطرقات

الطرقات المعبدة بالاسفلت

من موسكو ناخذ الطريق صوب فيرا

نذهب الى القرم عبر "كوك تبا"

اسمها الاصلي ولاية غوكتبي

كلانا في صندوق مغلق

العالم يتراكض من كلا الجانبين

صامتا ونائيا

لم اكن يوما قريبا لأحد

كما أشعر الان

في الطريق بين بولو وجردا

حين عبرت الدرب الاحمر

طلع علينا اللصوص

كنت في الثامنة عشرة

في المرج لم يكن معي من اشياء لتُسرق

سوى روحي

في الثامنة عشرة ارخص الاشياء

هي ارواحنا

وهذا ما كنت قد كتبته في مكان ما

غائصا في الشوارع الموحلة والمعتمة

اذهب لمشاهدة عروض خيال الظل

في الليالي الرمضانية

الفوانيس الورقية تتقدم المسير

ربما لاشيء من هذا قد حدث

.....

لسبب ما جالت الأزهار في خاطري

الحنون الصبار النرجس

في اسطنبول بضاحية كاديكوي

ببستان النرجس

قبلت ماريكا

انفاسها تفوح برائحة اللوز المر

كنت في السابعة عشرة

زلزال حل بقلبي المتأرجح

وقد لامس السماء

اخالني احب الزهور

ثلاث قرنفلات حمراء

ارسلها لي الرفاق في السجن عام 1948

عندها تذكرت النجوم

اخالني احببتها ايضا .

...

يتساقط الثلج امام ناظري

بطيئا بطيئا يندف بصمت

اخالني احب تساقط الثلوج

اخالني احب الشمس

حيث هي تغرب الآن

وتأخذ لون مربى الكرز

الشمس في اسطنبول تتلون احيانا

وتغرب كما في صور البطاقات

لكنك لن تستطيع رسمها هكذا .

اخالني احب البحار

لا حدود لحبي لها .

لنترك بحر آزوف جانبا .

اخالني احب الغيوم

اكنت تحتها او فوقها

اكانت تشبه العماليق

او كانت تشبه الحيوانات

ذوات الشعر الابيض

ضوء القمر يجول بخاطري الآن

ضعيفا وواهنا

واخالني احبه كيفما بدا لي

باكاذيبه المخادعة وبرجزته الصغيرة .

اخالني احب المطر

حين يهطل فوقي كخيوط الشبك

حين يتساقط ويتوزع في شغاف فؤادي

حيثما اكون يتركني فريسة للظنون

او نقطة بداخلها ويسافر في الخارطة

يسافر لبلاد مجهولة

اخالني احب المطر.

لكن لماذا اكتشف كل هذا العشق فجأة

في قطار براغ - برلين بجوار النافذة

الانني اشعلت سيجارتي الستين

ام لان التفكير يكاد يقتلني عنوة

لمن تركتها هناك في موسكو

لذات الشعر الذهبي الاصفر

والروموش الزرقاء

القطار يعدو في حالكة الظلام

اخالني احب حالكة الظلام

الشرارات تتطاير من القطار

اخالني احب الشرر

كثيرة هي الاشياء التي احببتها دون ان اعرفها

ادركت ذلك في الستين

في قطار براغ - برلين بجوار النافذة

كمن خرج لمشاهدة العالم

في رحلة لن تعود .

19 نيسان 1962